بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ
الرَّحِـــيمِ
وَجْهُ تَسْمِيَةِ القُرْآنِ
بِالْكِتَابِ
قِيلَ: لِأَنَّهُ ِكُتِبَ فِي
اللَّوْح الْمَحْفُوظِ قَالَ تَعَالَى: ﴿فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ (1).
وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ
فِي الصُّحُفِ الَّتِي بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى: ﴿فِي صُحُفٍ
مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ﴾ (2).
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كُتِبَ فِي هَذَا
الْمُصْحَفِ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِينَا.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَى
هَذهِ الْأُمَّةِ الْإِيمَانُ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، وَهَذَا
فَرْضٌ.
وَقِيلَ ـ وَلَعَلَّهُ أَصْرَحُهَا:
أَنَّهُ جُمِعَ فِيهِ مَقَاصِدُ الْكُتُبِ الْمُنَزَلَّةِ قَالَ تَعَالَى:
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ (3)، فَلَعَلَّ هَذَا الْأَخِيرَ هُوَ
أَقْرَبُهَا فِي مَعْنَى كِتَابٍ. قُلْتُ: وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ أَسْمَاءِ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ، وَفِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ قَالَ
تَعَالَى: ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ (4)، وَالْقَسَمُ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ
عَلَى رِفْعَتِهِ، وَبَيَانِ فَضْلِهِ، وَمَكَانَتِهِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ
بِلَفْظِ الْكِتَابِ.
وَقُلْنَا: إِنَّ لَفْظَ
الْجَلَالَةِ قُرِئَ بِرِوَايَتَيْنِ؛ بِالرَّفْعِ، وَالْخَفْضِ.
فَرِوَايَةُ الرَّفْعِ وَاضِحَةٌ
عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ الَّذِي:﴿اللهُ الَّذِي﴾.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْخَفْضِ
فَفِيهَا وُجُوهٌ: ﴿اللهِ الَّذِي﴾.
قِيلَ: نَعْتٌ لِلَفْظِ: ﴿الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ﴾.
وَقِيلَ: عَلَى الْبَدَلِ مِنْ
قَوْلِهِ: ﴿الْحَمِيدِ﴾، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ﴾، فَهَذِهِ كُلُّهَا مَخْفُوضَةٌ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَلَيْسَ صِفَةً
لِمَا تَقَدَّمَ، لَا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الِاسْمَ الْعَظِيمَ هُوَ صِفَةٌ لِمَا
تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ اسْمَ اللهِ تَعَالَى صَارَ كَالْعَلَمِ الَّذِي هُوَ للهِ
جَلَّ وَعَلَا، فَلَا يُوصَفُ بِهِ؛ بَلْ غَيْرُهُ هُوَ وَصْفٌ لَهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْخَفْضَ فِي
قَوْلِهِ: ﴿اللهِ﴾ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ؛ كَأَنَّهُ قَالَ: (إِلَى
صِرَاطِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ).
هَذِهِ آلَةُ تَخْرِيجِ
الْخَفْضِ
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ
دَلَّتْ عَلَى بَعْضِ الْهِدَايَاتِ وَالدَّلَالَاتِ:
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ: عَلَى
أَنَّ صِرَاطَ اللهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا للهِ مِنْ صِفَاتِ
الْجَلَالِ، وَنُعُوتِ الْكَمَالِ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ أَيْضًا: عَلَى
أَنَّ اللهَ هُوَ الْمَعْبُودُ بِالْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ الصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ.
وَدَلَّتْ: عَلَى أَنَّ مُلْكَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ كُلُّهُ للهِ؛ خَلْقًا، وَرِزْقًا،
وَتَدْبِيرًا.
وَدَلَّتْ: عَلَى أَنَّ ذِكْرَ:
﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ بَعْدَ ذِكْرِ: الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوَصِّلِ
إِلَى اللهِ تَعَالَى ـ أَنَّ مَنْ سَلَكَهُ فَهُوَ عَزِيزٌ بِعِزَّةِ اللهِ فَلَا
يُغْلَبُ، وَلَا يُقْهَرُ، وَمَنْ سَلَكَ أَيْضًا هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
فَهُوَ أَيْضًا مَحْمُودٌ فِي فِعْلِهِ، فَهُوَ عَزِيزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
نَاصِرٌ، وَهُوَ أَيْضًا مَحْمُودٌ فِي فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ظَنِّ النَّاسِ
لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
(1) اللهِ الَّذِي﴾.
هَذَا هُوَ مَا وَرَدَ فِي بَيَانِ
هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُنَاكَ آيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا
الْكِتَابِ الْمَطْبُوعِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النُّسَخِ، وَفِي الْكُتُبِ
الْمَطْبُوعَةِ لِهَذِهِ «الْمُقَدِّمَةِ»، وَهِيَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15)
يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم
مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾ (5)، هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِنْ
صُلْبِ هَذِهِ «الْمُقَدِّمَةِ»، وَقَدْ ذَكَرَهَا كُلُّ مَنْ كَتَبَ فِي هَذِهِ
«الْمُقَدِّمَةِ»، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَخْطُوطِ.
وَالشَّاهِدُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي
فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ
السَّلاَمِ﴾؛ أَيْ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَ هَذَا الْقُرْءَانَ فَإِنَّ اللهَ
سُبْحَانَهُ يَهْدِيهِ إِلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ بِإِذْنِهِ
سُبْحَانَهُ.
﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ
وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾؛ فَسُمِيَّ الْقُرْآنُ نُورًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَضِيءُ بِهِ
كُلُّ مَنْ يَقْرَؤُهُ، وَيَتَّبِعُهُ، وَيَعْمَلُ بِهِ: ﴿وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾؛
أَيْ بَيِّنٌ فِي أَلْفَاظِهِ، وَبَيِّنٌ فِي مَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ، فَمَنِ
اتَّبَعَهُ، وَسَلَكَ مَسْلَكَهُ هَدَاهُ إِلَى السُّبُلِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَذَكَرَ أَيْضًا الْآيَةَ الَّتِي
فِي سُورَةِ الشُّورَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا
مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً
نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ﴾ (6). فَوَجْهُ الشَّاهِدِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلَكِن
جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾؛ أَيِ أَنَّ
الْهِدَايَةَ مُتَحَقِّقَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَالنُّورُ
حَاصِلٌ لِمَنْ يَتْبَعُهُ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى: ﴿رُوحاً﴾، قَالَ
تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً﴾؛ لِأَنَّ الْجَسَدَ لَا
يَحْيَى بِدُونِ الرُّوحِ، وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا تَحْيَا الْقُلُوبُ، وَلَا
النُّفُوسُ إِلَّا بِهِ.
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
رُوحاً﴾؛ أَيْ كَمَا أَوْحَيْنَا عَلَى مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
وَالرُّسُلِ أَوْحَيْنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ:
﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً﴾
فَهَذَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ؛ بِهِ
حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ مِنْ مَوْتِ الْجَهْلِ، وَبِهِ حَيَاةُ
الْقُلُوبِ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَبِهِ تَحْيَا
أَيْضًا مَصَالِحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ
وَالْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ الْمُبِينِ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً
مِّنْ أَمْرِنَا﴾، ثُمَّ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ: ﴿مَا
كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ﴾؛ أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ حَتَّى
عَلَّمَكَ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَلَمْ تَكُنْ تَعْلَمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ أَيْ
مَا كُنْتَ تَعْلَمُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَالَاتِ
وَالْهِدَايَاتِ حَتَّى عَلَّمَكَ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَأَيْضًا عَلَّمَكَ
مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ قَبْلَهُ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى
عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ بِآيَاتٍ أُخَرَ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَاتِ كَمَا قَالَ
اللهُ تَعَالَى: ﴿وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ (7)،
فَعَلَّمَهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، وَقَالَ تَعَالَى
أَيْضًا: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (
؛ أَيْ لَا
تَعْلَمُ شَيْئًا عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَلَا عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ حَتَّى
مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكَ بِهَذَا الْقُرْآنِ.
ثُمَّ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلا
الإِيمَانُ﴾؛ وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَفَاصِيلُ الدِّينِ
الْإِسْلَامِيِّ، وَالشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ مَا كَانَ يَعْلَمُهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا، وَالْإِيمَانُ هُنَا شَامِلٌ لِلْقَوْلِ،
وَالِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ
عِنْدَ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ ذَلِكَ، فَمَا كَانَ يَعْرِفُ الصَّلَاةَ وَلَا
تَفَاصِيلَهَا، وَمَا كَانَ مِنْهَا وَاجِبًا وَلَا مَسْنُونًا، وَلَا الزَّكَاةَ
أَيْضًا كَذَلِكَ؛ إِلَّا لَمَّا أَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ هَذَا
الْقُرْآنَ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ، وَالصِّيَامُ، وَالْمُعَامَلَاتُ، وَغَيْرُهَا،
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ الْمُوَافِقُ لِمَا فِيهِ الْقُرْآنُ
وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْخَوْضُ فِي فَلْسَفَاتٍ
أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ كَانَ عَلَى ضَلَالِ؛ الضُّلَّالِ الْمَقْصُودُ
بِهِ أَنَّهُ لَا يَدْرِي طَرِيقَ الْهِدَايَةِ، فَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي
ذَكَرْتُهُ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ.
﴿وَلَكِن﴾ هَذَا حَرْفُ
اسْتِدْرَاكٍ: ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي﴾؛ أَيْ لِمَنْ يَتْبَعُ هَذَا
الْقُرْآنَ، وَيَقْرَؤُهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، فَسَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى نُورًا؛
لِأَنَهُ يُضِيءُ بِالْحَقِّ، وَيُزِيلُ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ، وَالرَّيْبِ،
وَالضَّلَالِ، وَهَذَا مِنْ أَوْصَافِ الْقُرْآنِ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ
الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ نُورٌ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قَالَ
تَعَالَى: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ (9)،
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ﴾ (10)، وَقَالَ
تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ (11)، فَسَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى
نُورًا؛ لِأَنَّ قَارِئَهُ، وَالْعَامِلَ بِهِ، وَالْمُتَّبِعَ لَهُ يَسْتَضِيءُ
بِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا، وَفِي قَبْرِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ.
وَنَذْكُرُ الْآنَ بَعْضَ مَا
دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ:
* فَدَلَّتْ: عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ
نُورٌ يَكْشِفُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَيَمِيزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ،
وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ.
* وَدَلَّتْ: عَلَى أَنَّ
الْمُسْلِمَ يَجِبُ أَنْ يَسْتَضِيءَ بِنُورِ الْقُرْآنِ؛ فَيَعْتَقِدُ
عَقَائِدَهُ، وَيَعْمَلُ بِأَحْكَامِهِ، وَيَمْتَثِلُ أَوَامِرَهُ، وَيَنْتَهِي
عِنْدَ نَوَاهِيهِ، وَيَعْتَبِرُ بِقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ.
ثُمَّ قَالَ اللهُ تَعَالَى بَعْدَ
ذَلِكَ: ﴿صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا
إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ اللهَ
تَعَالَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْأُمُورَ
صَائِرَةٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّ الْعَبَادَ رَاجِعُونَ إِلَيْهِ: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ
الرُّجْعَى﴾ (12).
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ
اللهُ:
وَقَدْ كَتَبْتُ هَذِهِ
المُقَدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً، بِحَسَبِ تَيْسِيرِ اللهِ تَعَالَى، مِنْ
إِمْلاءِ.
فَهُوَ كَتَبَهَا مِنْ عَفْوِ
الْخَاطِرِ مِمَّا فَتَحَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْصِدْ لَهَا
الْمَرَاجِعَ، وَلَا الْكُتُبَ فَيَأْخُذُ مِنْهَا؛ وَإِنَّمَا مِنْ بَنَاتِ
أَفْكَارِهِ، وَقَرِيحَةِ ذِهْنِهِ، كَتَبَ مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ هَذِهِ
الْمُقَدِّمَةِ، لَكِنَّنَا نُلَاحِظُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللهَ
سُبْحَانَهُ قَالَ فِي آيَةِ إِبْرَاهِيمَ: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ (13)، كَلِمَةَ: ﴿بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ﴾.
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ:
﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم
مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ﴾ (14)، فَجَاءِ بِلَفْظِ الْإِذْنِ
هُنَا، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا
يَمْلِكُ هِدَايَةِ التَّوْفِيقِ لِلنَّاسِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ كَمَا هُوَ
مُتَقَرِّرٌ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
هِدَايَةُ تَعْلِيمٍ وَإِرْشَادٍ
وَبَيَانٍ: وَهَذِهِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ
الْوَارِدَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ﴾.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: هِدَايَةُ
تَوْفِيقٍ: وَهِيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَجَاءَ بِلَفْظِ الْإِذْنِ هُنَا
لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ هِدَايَةِ التَّوْفِيقِ لَا يَمْلِكُهَا الرَّسُولُ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلِهَذَا دَعَا عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ إِلَى
الْهِدَايَةِ، وَحَاوَلَ مَعَهُ مُحَاوَلَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَسْتَجِبْ
لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرِدْ لَهُ الْهِدَايَةَ حَتَّى
إِنَّهُ قَالَ، وَاعْتَرَفَ بِهَذَا الدِّينِ بِأَنَّهُ الدِّينُ الْحَقُّ
فَقَالَ:
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ
مُحَمَّدٍ *** مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارِي
سُبَّةً *** لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
وَلَكِنَّهُ مَاتَ عَلَى غَيْرِ
الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا فِي هَذِهِ
الْآيَةِ الَّتِي مَا زِلْنَا فِيهَا: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾، أُضِيفَ الْفِعْلُ
﴿تُخْرِجَ﴾ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهُ ذَلِكَ
أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الدَّاعِي، وَالْمُنْذِرُ،
وَالْهَادِي، هَذَا مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي سَاقَهَا
الْمُؤَلِّفُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة البروج: 22.
(2) سورة عبس: 13، 14.
(3) سورة المائدة: 48.
(4) سورة الزخرف: 1،2.
(5) سورة المائدة: 15، 16.
(6) سورة الشورى: 52.
(7) سورة النساء: 113.
(
سورة يوسف: 3.
(9) سورة التغابن: 8.
(10) سورة الأعراف: 157.
(11) سورة النساء: 174.
(12) سورة العلق: 8.
(13) سورة إبراهيم: 1.
(14) سورة المائدة: 16.
[center]