عندما يُبحث عن التأويل في حياة الرسول المعرفية، لا يسع البحث تجاوز البيان المنهجي الذي صدر عنه، يشرح فيه علم التأويل، لقد قدّم الرسول بيانا علميا شاملا، يشرح التأويل على المستوى القواعدي والإجرائي، كما نقدمه في هذا العرض: ... لقد قال الرسول وهو في صدد عرض علم التأويل: «من أفتى الناس بالمقاييس فقد هلك وأهلك، ومن أفتى الناس وهو لا يعرف الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك»، هذا المشهد نتمثل فيه الرسول وقد توجه إلى ملأ الأمة بالخطاب مشترطا الفتوى بالمعرفة بالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، مما يدل أن استنباط الفتوى ممارسة منهجية عامة، لم تقتصر على فئة دون أخرى، لها شروطها العلمية المتحققة في تلك العناوين المنهجية التي تؤسس علم الفتوى وتمثل العدة المنهجية للاستنباط، ومن لا يتعاطى الاستنباط من خلالها، فانه يقع في البديل المخالف الذي يستند إلى اللامنهج الذي تمثله مقاييس الرأي .هذه العدة المنهجية المتكونة في العناوين الأربعة هي التي تتحول إلى عنوانين اثنين، عندما يكشف الرسول(ص) إن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ. قال ذلك عندما سئل عن تفسير قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)7/3، فقال(ص): «المحكمات هن الناسخات والمتشابهات هن المنسوخات»، فهكذا نستنتج ان الفقه باعتباره علما لاستنباط الفتوى يرتكز على المحكم /المتشابه أو الناسخ/المنسوخ.
ثم سلط الرسول(ص) الضوء على العلاقة القائمة بين ركيزتي علم الفقه واستنباط الفتوى المحكم/ المتشابه. فأوضح إن العلاقة بينهما علاقة مرجعية، فيها يرجع الطرف الأصغر إلى الطرف الأكبر، عندما قال(ص): «إن في القرآن متشابها ومحكما فمن ردّ متشابهه إلى مُحكمه، فقد هُدي إلى صراط مستقيم» ، يعزز ذلك دلالة الآية الآنفة: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)7/3، فقد وصفت المحكمات بأم الكتاب، أي أصله، فالمحكمات هن أصول الكتاب. ولما كانت المتشابهات هن غيرها المعاكس، فإنها تعرف بفروع الكتاب. ووصف المحكم بالأصل والمتشابه بالفرع، يكشف ضرورة عودة الفرع إلى أصله منطقيا. ولما عرفنا إن المتشابه هو المجهول، والمحكم هو المعلوم، فان ردّ أو إرجاع المتشابه إلى المحكم هو انتقال من المجهول إلى المعلوم ...
هذه العلاقة المرجعية تكشف عن علاقة تفاعلية بين المحكم والمتشابه، على ضوئها سمي التقسيم ذاته، أي المحكم/ المتشابه، بالناسخ/ المنسوخ، فالناسخ كلمة ترد على وزن فاعل، والمنسوخ كلمة ترد على وزن مفعول. فطرف العلاقة المتشابه يكون في موقع المفعول لانفعاله بالفاعل، بينما طرف العلاقة المحكم يكون في موضع الفاعل لفعله في المفعول. ولما كان النسخ ينتهي بالإحكام، كما يدل على ذلك قوله تعالى: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان [:التشابه] ثم يحكم الله آياته)52/22، أي أن عملية نسخ التشابه- المتمثلة في إلقاءات الشيطان- تنتهي إلى الإحكام. بعبارة أخرى، إن النسخ يعقبه الإحكام: (فينسخ ... ثم يُحْكِم). بهذا الخطاب القرآني تتكشف الآلية النسخية التي تتمخض عن علاقة الركائز الأربعة ببعضها: المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، حيث ردّ المتشابه إلى المحكم يفضي إلى عملية تفاعلية يصطلح عليها بالنسخ.
ولتحقيق مفهوم النسخ نرجع إلى المعجم اللغوي، فالنسخ كلمة ترد - في (لسان العرب)- بمعنى (الإبطال) فيقال: «نسخت الشمس الظل، أي أبطلته». والنسخ يأتي أيضا بمعنى (التثبيت)، كما في قولنا: «نُسِخ الكتاب: أي كتبه وأثبته». كذلك من معاني النسخ، في اللغة، «تبديل الشيء من الشيء»، أيضا من معاني النسخ كما ينقل ابن منظور: «نقل الشيء من مكان إلى مكان». كل هذه المعاني اللغوية يوظفها التراث القرآني ويراكب بينها ليوجد منها تصورا يشرح مفهوم النسخ في القرآن، بالكيفية التالية: عندما ترد الآية المتشابه إلى النظير المحكم، فان التشابه يبطل، وهذا يحقق المعنى الأول للنسخ، ويتزامن أبطال التشابه مع تثبيت الآية على وجه، وهذا يحقق المعنى الثاني للنسخ، ويترتب على ذلك في بعض الصور إبدال الكلمة المتشابهة بالكلمة المحكمة، وهذا يحقق المعنى الثالث للنسخ، وفي إبدال الكلمة بأخرى نقل لتلك الكلمة من موضعها إلى موضع اخر، وهذا يحقق المعنى الرابع للنسخ: «نقل الشيء من مكان إلى مكان». بل مفهوم النقل أيضا يجري عندما نقتطع مقطع من مكانه وننقله ليكمل مقطع اخر. وهكذا نكتشف ان كل الوجوه والمعاني التي تتصرف إليها كلمة (النسخ)- كما يطالعنا بها معجم (لسان العرب) لابن منظور- قد وظفت لتوصف لنا وجوه (النسخ) باعتبارها عنوان علم وممارسة منهجية، وهو ما يمتعنا بوضوح في الرؤية ودقة في الفهم لأبعاد هذا المصطلح ..
يعزز هذا التنظير لمصطلح (النسخ) الواقع التطبيقي في تاريخ الإسلام، الذي نجد فيه الكثير من النماذج، مثال ذلك قراءة ابن عباس لقوله تعالى: (ما ننسخ من آية)106/2 اذ قرأها: (ما نبدل من آية)، واضعا (نبدل) بدل (ننسخ) استنادا للنظير المحكم: (وإذا بدلنا آية مكان آية)101/16. كما نجد النسخ بمعنى النقل في قراءة تلميذ الرسول أبي بن كعب: (كان الناس أمة واحدة [فاختلفوا] فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب)213/2 بإضافة (فاختلفوا). التي أخذت من آية مناظرة هي قوله تعالى: (وما كان الناس إلا أمه واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت)19/10، فنقلت كلمة (فاختلفوا) وألحقت بالآية النظيرة لتكمل وتُتِم المعنى وتنهي التشابه الناشئ عن الجهل بسبب بعثة الأنبياء.
وهكذا يتبين الفرق بين المحكم/المتشابه من جهة، والناسخ/ المنسوخ من جهة أخرى، ويمكننا تعليل الفائدة المرجوة من تعدد عناوين حقيقة واحدة، بإيضاح أن عنوان المحكم/المتشابه يقسم الآيات القرآنية من ناحية الوضوح والغموض، من جهة، بينما عنوان الناسخ/ المنسوخ يقسم الآيات القرآنية من ناحية الفاعلية، الفاعل والمفعول، من جهة أخرى. فيلقي الضوء على العلاقة التفاعلية بين العنوانين، التي فيها يرجع المتشابه باعتباره فرعا مفعولا به إلى المحكم بوصفه أصلا فاعلا، ليحدث تفاعل ينتج عنه نسخ التشابه، وإحكام الآية في وجه من وجوهها، يعبر عن طور تنمو فيه. أي ان الإدراك عندما يواجه الآية المتشابهة التي يلاقي مشكلة في كشف معناها، يستعين بدلالة العنوان التفاعلي أو التناسخي، ليتساءل عن الناسخ، الذي تمثله الآية النظيرة المحكمة، لتوظفه في إبطال التشابه والتحول منه إلى عنوان المحكم.
وعن المتشابه بمعنى المتناظر، وما يؤسس له من منطق مقارن، يقول الإمام الصادق(ع): «المتشابه الذي يشبه بعضه بعضاً»، فهنا المتشابه يطرح بمعنى النظير المماثل وليس المتشابه بمعنى غير المبين، والملتبس غير الواضح، الذي قال عنه من قبل: «المتشابه ما اشتبه على جاهله». ويقصد من التناظر التقاء آيتين قرآنيتين من خلال اشتراكهما في لفظة مثل (جاء)، فيكون التناظر بين الخطابين لفظيا، او من خلال التقاءهم في معنى، مثلا ان يكون في احد الخطابين كلمة (جاء) وفي الخطاب الثاني كلمة (أتى)، فهنا التناظر في المعنى، فهو تناظر معنوي. ولا تعطى أهمية للصيغة، التي يأتي فيها التناظر، فالتتبع ينصب على جذر الكلمة، فعندما نتتبع التناظر في كلمة (علم) فان التتبع يشمل كل اشتقاقات وصيغ هذه الكلمة: (علم، علمه، علمتك، علمي، يعلم، علام، تعلمون، علماء، ... الخ). هذا ما يقصد بالتناظر المعنوي الذي يقع في قبالة التناظر اللفظي.
إلا أن رد الآيات المتشابهات والمتماثلات والمتناظرات إلى بعضها ينبغي أن يأخذ في اعتباره لحاظ آخر، هو أن يرد المتشابه إلى النظير الناسخ للتشابه، وليس إلي أي نظير، أي أن تعقّب التناظر يحتاج إلى الاستهداء بالعقل، وهو الضابط الذي يؤكده الإمام الرضا راويا عن جده الرسول (ص): «إن في القرآن محكماً ومتشابهاً، فمن ردّ المتشابه إلى المحكم فقد هُدى إلى صراط مستقيم، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فِي أَخْبَارِنَا مُحْكَماً كَمُحْكَمِ الْقُرْآنِ، وَمُتَشَابِهاً كَمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، فَرُدُّوا مُتَشَابِهَهَا إلى مُحْكَمِهَا ولَا تَتَّبِعُوا مُتَشَابِهَهَا دُونَ مُحْكَمِهَا فَتَضِلُّوا»، فهذا الحديث يلقي الضوء على ان ما قام به ابن حنظله، حيث إتباعه للآية المشار إليها وأشباهها، يتم في إطار إلحاق المتشابه بالنظير المحكم له: «فلا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا»، فهذا النمط من التتبع المتقيد بهذا الأمر يكفل للبحث أن يرد الآيات المتشابهات إلى النظائر والأشباه التي تنسخ التشابه وتحكم وجه الآية، وليس إلى أي نظير من النظائر كيفما اتفق، حتى لا تقع العملية في الضلال.
ولما كان لكل آية أكثر من نظير وشبيه، لفظي أو معنوي، فان ذلك يعني أن للآية أكثر من أصل محكم، كل أصل يصرفها إلى وجه مغاير، فكان من شأن ذلك؛ أن ينتج ظاهرة تكثُّر الوجوه، وهي الظاهرة التي إذا استطاع المرء الدارس للفقه، في الصدر الأول، أن ينتجها، فانه بذلك يثبت بلوغه مرتبة الفقه كل الفقه، وأصبح جديرا بلقب فقيه راسخ في العلم، بشهادة الرسول الذي عرَّف الفقيه بالقول:«لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة»، فنفهم أن الفقه هو تصريف للقرآن على وجوه، وان المسلم مشروط تأهله لممارسة الفقه بتمكنه من القدرة على تصريف خطاب القرآن على وجوه كثيرة، فمع بلوغه هذه القدرة يكون قد انطبق عليه تعريف الرسول، وبذلك صار جديرا بالفقه، ومن دون امتلاك هذه المقدرة يصبح ادعاء الفقه والفقاهة ادعاء لا دليل عليه.
ولما عرفنا أن الرسول(ص) قد قال:«ومن أفتى الناس وهو لا يعرف الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك»، فبمقارنة ذلك مع قوله(ص):«لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة»، يتضح أن الفقيه هو الذي يمارس الإفتاء، فالفقيه هو المفتي، وان الموضوع في كلا الحديثين متفق، فلما كان الفقيه المفتي من جهة لا يكون كذلك حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة، ومن جهة أخرى، لا يتسنى له ممارسة الفقه والإفتاء حتى يعرف أركان علم الفقه والفتوى، التي تتلخص بالمحكم/ المتشابه أو الناسخ/ المنسوخ، فمن شان ذلك أن يجعل عملية تأويل القرآن على وجوه تؤسس على المعرفة بركائز الفتوى، وما تنشأ بينها من علاقة مرجعية، فيها ينسخ المحكم تشابه المتشابه، ويؤوله ويصرفه على وجوه كثيرة، يجمع هذه المحصلة للحديثين الخبر: «أَنَّ عَلِيّاً (ع) مَرَّ عَلَى قَاضٍ فَقَالَ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا. فَقَالَ: هَلَكْتَ وأهلكْتَ، تأويل كل حرف في القرآن على وجوه». رابطا بين المعرفة بالناسخ والمنسوخ وبين تصريف الكتاب على حروف ووجوه كثيرة.
فأتضح مما تقدم أن الآية المتشابهة هي الآية التي غمض معناها، وجهلنا وجهها ودلالتها أو هي الآية المضطربة في دلالتها، المترددة في وجوهها، بينما الآية المحكمة هي الآية التي يتميز وجهها ومعناها بالوضوح والبيان والثبات. وعملية ردّ الآية المتشابهة إلى الآية المحكمة، لتجاوز التشابه وإجلاء المعنى والدلالة والوجه، تأتي في إطار إرجاع الفرع إلى أصله. فتمنح عملية إرجاع الآيات إلى بعضها للآيات تسمية، تشير إلى وظيفتها التفاعلية، فالآية المتشابهة يطلق عليها اسم الآية المنسوخة، والآية المحكمة يطلق عليها اسم الآية الناسخة. حيث كلمة النسخ في اللغة تتضمن وجوه منها: (الإبطال)، المتجلي في زوال التشابه، وإبطال تنازع الوجوه. ومن وجوهها (التثبيت) حيث تثبّت الآية على وجه من وجوهها بوضوح، ويستدل بالتماثل القرآني على ارتباط المثل بشبهه بعلاقة تفسيرية. فإلحاق الآيات ببعضها يؤدي إلى إجراء تحولات في دلالة الآيات، للكشف عن وجوهها، ظاهرة وباطنه، وهي التحولات التي تبرز فيها وجوه وتختفي أخرى، هذا التصريف للوجوه يستهدف تثبيت الخطاب على قراءة ووجه، يتناول الحقيقة المبحوث عنها، المصطلح عليها بالفتوى. ويمكن اختصار هذه العملية المعنونة بـ (الاعتبار- التأويل) بالرسم الإيضاحي التالي، الذي نشرحه بعد عرضه: