وسلم يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القيام - مع ما كان فيه من العسرة والشدة - بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم. ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام. الإعلان بالتهيؤ لقتال الرومان: ولما قرر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال. وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم. وكان كل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها. ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان. وجلى للناس أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة كاملة. وحضهم على الجهاد، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد، وتحثهم على القتال. ورغبهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بذل الصدقات، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللَّه. المسلمون يتسابقون إلى التجهز للغزو: ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة - إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر - حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ ليخرجوا إلى قتال الروم، فإذا قال لهم: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة: 92]. كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية، فتصدق بها ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره صلى الله عليه وسلم . فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقلبها ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود. وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله ولم يترك لأهله إلا اللَّه ورسوله - وكانت أربعة آلاف درهم، وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بمال كثير. وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة، كلهم جاؤوا بمال. وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقا من التمر. وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مداً أو مدين لم يكن يستطيع غيرها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك ومعاضد وخلاخل وقرط وخواتم. ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} [التوبة: 79]. الجيش الإسلامي إلى تبوك: وهكذا تجهز الجيش، فاستعمل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل سباع بن عرفطة، وخلف على أهله علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وأمره بالإقامة فيهم، وغمص عليه المنافقون، فخرج فلحق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فرده إلى المدينة وقال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى